مقدرتنا على التغيير

Thursday, July 27, 2017

منذ الانفجار الكوني العظيم  قبل خمسة عشر مليار سنة بدأ شيء اسمهُ التاريخ !بعد ذلك بدأ هذا التاريخ  بالتشعب أكثر وأكثر ليتحرر ذاته من مفهومهِ العام والتقليدي ... نعم تحرر... ليكون ثمة تاريخ للكون وتاريخ للأرض بعصورها الجيولوجية ثم تاريخ البشرية وتاريخ الحضارات والديانات والشعوب والقائمة تطول كلما ناشدناها الاختصار !
إن صفة التحرر والاستقلال تسِمُ كل شيء في هذا العلم القديم والمسمى تاريخ ، فالجميع أراد أن يكون متبوعاً لا تابعاً ، سيداً لا عبداً ، أصلاً لا فرعاً .... باختصار كل شيء أراد أن ينفرد بذاته وهذا المفهوم انسدل على الجميع  مجرات ونجوم وكواكب و دول وبشر وحيوانات .
فالأسد استأثر بالغابة و أخاف بزئيره كل صنوف الحيوانات وتزعم محيطه ورفض التبعية من أحد لذلك نجده في آداب الشعوب وقصصها هو ملك الحيوانات ولأجل ذلك سَيَدهُ ابن المقفع في (كليلة ودمنة) دون غيره ، كذلك الإنسان ، فمنذ أن استعمر الأرض وكان بدائياً إذ كان رمحهُ من خشب وسكينه من حجر وملبسه ورق الشجر نجده تزعم المحيط الذي يعيشهُ ، فزعيم القبيلة ثم زعيم القبائل كلها ثم الزعيم الأكبر ، بل ذهب بحبه للقيادة بأن اعتقد بأن الأرض كلها ملكٌ له بما تحتويه من حجرٍ وبشر ، حتى البحر لم يسلم من بسط نفوذهِ عليه ، وإلا ما كنا سنسمع لاحقاً  عن القراصنة و أسياد البحر .....
واذا ما توسعنا بالأمثلة سنجد بأن الحضارات والدول مارست حب الزعامة ، حيث أن العمود الفقري لأي حضارة هو الدين أو العرق فمنذ عمق التاريخ نجد بأن أي حضارة حينما ازدهرت وقويت وتثبتت بالأرض  كان أول خطوة لها بعيد ذلك هو غزو الحضارات الأخرى  بحجة أنها الأقوى والأمكن والأجدر بالبقاء عن بقية الأمم الأخرى  ، وإلا ما كنا سنسمع لاحقاً عن مفهوم صراع الحضارات .....
وحينما تقدم الزمن أكثر استخدمت الدول نفس النهج بالاصطفاء والارتقاء دوناً عن الغير ،  وكثيرةٌ هي الدول التي قوت شوكتها فالتهمت غيرها بحججٍ كثيرة سوغتها هنا وهناك لتبرر ما فعلت ، لكن هدفها الأوحد بالتأكيد هو السيطرة والانفراد في كل شيء  ....
كذلك الأجرام السابحة في عتمة الكون المتسع ، فالكويزات تزعمت النجوم والأخيرة تزعمت الكواكب ، والكوكب تسيد الأقمار وجعلها رهينة حركتهِ وحده دوناً عمن سواه ،  وربطت تلك الكواكب أقمارها بأمواج جاذبيتها لتبقى ملكاً لها وحدها  ....
تيتان قمر جميل جداً فيهِ كل مقومات الاستقلال لدرجةِ أنهُ يشبه كوكبنا هذا ، ويقول الفلكيون بأن الماء وفيراً عليه لكنهُ مختبئٌ بأغوارهِ السحيقة، أنهار الميثان تجري فيهِ هنا وهناك ، بعيدٌ عن الشمس لذلك تجمد ، حاول كثيراً أن يتحرر من جاذبية زحل وينطلق نحو نجم الشمس ويستقل لكنه ما استطاع أبداً ، إنهُ ينشد الدفيء كي يفجر بأعماقهِ مظاهر الحياة المجمدة من ماءٍ وهواء ويكون نابضاً بالحياة كالأرض  ولربما ينافسها ، لكن زحل عنيد وقاسٍ حيث عمق من  شد تيتان نحوه ، وجعلهُ  رهين أمواج جاذبيته  فقط  فلا يستطيع الانفلات منهُ أبداً ....
أوروبا قمر لا يقل جمالاً عن تيتان فيه الملح والمغنيسيوم والكبريت جميلٌ وساطع لكنه باردٌ أيضا ، لن تنفجر فيهِ مظاهر الحياة إلا إذا فك أغلاله وانطلق نحو الشمس أيضا، لكن سيدهُ كوكب المشتري يمنعه ، يقيده ، يلزمهُ بالدوران حوله فقط ، وكأنما يقول له : جمالك لي وحدي دون غيري ، لن تبرق بأفقٍ غير أفقي أنا... على الرغم من عواصفي الهوجاء الشرسة المعبرة عن مزاجي وغضبي فإنك باقٍ لي وحدي  .... إذا لا مناص لهذا القمر سوى الطواف في إهليلج هذا الكوكب العملاق كرهاً لا طوعا  ....
كم من صاحب إبداعٍ وفكرٍ أراد أن يتحرر من أغلالٍ تقيده فكراً وجسدا لكنهُ ما استطاع ، ليظل حبيساً لقيود الجماعة والطائفة والجنسية واللون  والعشيرة والحارة والمسقط ، كل واحدٍ فينا بداخلهِ عبد وسيد ، كوكب وقمر ، حرية وعبودية .... فيصطفي من هذا وذاك من أراد لهُ القدر أن يكون .... أحيانا نكون قادرين على تغيير مسالك و مسارات صفاتنا وأحيانا لا نستطيع ، فقد ندور في إهليج غيرنا مرغمين وأحيانا يدور الغير في إهليجنا ، كل هذا متوقف على مقدرتنا للتغيير إن كنا لذلك فاعلين .
صدق الكاتب الأمريكي ( بروس بارتون) حينما قال (لم ينجز شيء إلا على أولئك الذين تجرئوا على الاعتقاد أن بداخلهم قوى تتفوق على الظروف).

0 التعليقات:

Post a Comment

من أنا

Rasha Khalifa
View my complete profile

Blogroll

 
© جميع الحقوق محفوظة |Study with us sPRk