سيدة الفنار

Sunday, August 28, 2016


أبحث بالكلمات عن التعابير فتخونني .... أحاول ابتعاث ذاتي من جديد، كما أحاول ابتعاث روحها التي عشقتها من بين أكوام ذات
الكلمات  ... أقاتل كي أجدها ، كي أراها ، كي أستنشق يوماً عطراً كانت تضعه بهدوءٍ فوق نحرها  ... لكن لا شيئ سوى الكلمات والكلمات .... وما بين السطور والفواصل والمحارف أستجمع شخصي و أحاول أن أرسمها من جديد ، فيظهر لي ذاك الكائن المشتت والذي أبحر بخضم الروح فاقداً بوصلته ولا شيء معهُ سوى زورقاً يتضور خوفاً في محيطٍ عتيم ....
تحملني الأمواج لأبعد من حدود الخيال ، وددت لو غرقت ، فأنا أدرك أن انقطاع الروح بات حلاً لمن ابتعدت عن الروح والجسد ، فأصبحت مجرد ألم و تيارات ذكرى و تفكير ... فما الفائدة من روحٍ أصبحت خواء ... ومن نسمةٍ صارت كالأنواء ...... ما الفائدة من روحٍ تناجي من تهواها في كهفٍ بهيم الليل ، ليس فيه سوى صوت الصدى المرتد و عتمة الكهوف ....
ما الفائدة من روحٍ تناجي من تحب بلغةٍ مقدسة لكنها جريحة .. طريدة ... واهنة ... خائفة ..... تناجي و ترسل زفرات الألم هنا و هناك ، علها تجد من يحتويها ، فالألم لم يكن قاسياً بأنيابه فقط بل قساوتهُ تتعمق حينما لا يجد من يتفهم هذا الألم و يدرك  لما  هذا النزيف.
من بين هذا و ذاك ... ثمة طيف أنثى تتفصل في جسدها أسمى معاني الجمال ... تشق طريقها عبر روضة العشب الندي بقدمين عاريتين يعتليهما أظافر مخملية تلونت بلون الأرجوان و خلخالاً من فضة يشنق كل مأسورٍ وقع بشرك الجمال ... قدمان تسقطان على العشب فلا أدري أيتحول العشب لشعيرات الذهب ، أم أنهُ يموتُ من لحظتهِ تلك كي ينبُتَ مجدداً فوق سطح القمر لأن قدميها تجترح المستحيل .....
ترتدي فستاناً أبيضاً شفاف تراقصهُ النسائم الباردة كما تتراقص أوراق الأوركيد البيضاء ، وحينما تسقط النسائم على جسدها المختبئ بمكنون فستانها الشفاف تظهر معالم كويكب جديد ما عرفهُ علماء الفلك وراصدي النجوم عبر تلسكوباتهم العملاقة ... كلا ... كلا  ذاك الكويكب لا يسبح بالفضاء ولا يدور حول الشمس ولا ينتمي لعتمة الكون الرهيب ...
إنها الآن وفقط الآن تمشي الهوينةَ فوق العشب الندي حاملةً بيدها ناقوساً يتراقص بداخلهِ الفتيل النحيل فلا يدرك الرائي أتراقصُهُ هذا نابعاً عن خوفهِ أم من حُسنِ محياها الفتان ....
و أنا لما أزل في هوجاء المحيط الغاضب و روحي تراقب خطوات قميرائي وهي تلجُ لذاك المبنى العتيق المنصوبِ فوق التلة ، كنتُ أراها من حيث لا تراني ... فخيالي الوقاد المربوط بذوائب فستانها الشفاف كان يراقبها من حيث لا تعلم ... كنتُ أسمع  و أترجم نبض قلبها الرقيق .. الحنون .. الزاخر بكل معاني التسامي و الحب .......
دخلت نحو المنارة العتيقة و أزاحت بيدها الفتانة بابها الخشبي العتيق ، وبقدميها الحافيتين ولجت المكان ، كان نبضها يهمس باسمي و يناجيني ، أسمعها وهي تلهث من خوفها على الحبيب الذي أبحر بمحيط عشقها وقد أحاطتهُ أطواد الأمواج تريد منعهُ من الظفر بحسن طالعها و بفاتن محياها ......
يا لقلبها البريئ المحب المتعلق بالأماني و الرؤى .... لقد هتف لها الأمل و استنشدها الحب و صارحتها تغاريد المنى ، وها هي ذا تصعد سُلم المنارة محاولةً الوصول لموقدها البارد المنطفئ  وكلها ثقة بأنها ستفعل ... نعم ستفعل ذلك .... بل ستفعل .
وصلت للمبتغى وهي تلهث من الصعود و بقلبها ثمة نبض آخر يناجيهِ و كأنها تقول له : حبيبي لقد وصلتُ للتو فلتفداك روحي انتظرني  ... وها هي تستوقد الموقد من قبسٍ أخذتهُ من فتيل ناقوسها النحيل الذي تمسكه ، و حينما رمت بقبس النار هذا بدأ الموقد يزمجر بينما انشغلت هي بنفخ الهواء الحنون كي تزداد النارُ من التهام الحطب ......


أوقدي ناراً  تضرمينها يا حبيبة عمري من هواء رئتيكِ ... فلمجرد أن تصل أنفاسكِ لجذوة الحطب سيدرك بأنكِ أنتِ من تنفخين فيه ، حينها سيشتعل الحطب من تلقاءِ نفسه بأتون الموقد و سيحترق انتحاراً فقط لأنكِ أنتِ من أمرتهِ بذلك يا ونسية الروح و الفؤاد ....
أخيراً أوقدت النار بالمرجل و بدأ النور يشع من الفنار وكأن ضوء المنارة تلك شمسٌ أخرى ظهرت بالكون ، وأصبح من اليسير حتى على من يسكن زحل بأن يرى ذاك الشعاع المهيب وهو يبحث عنهُ .... لقد تناثرت جزيآت الضوء في كل زوايا العتمة ، ولم يعد للفيزياء أي وجود ولا حتى قانون بسيط يحتوي على مفهوم سرعة الضوء .... لقد تسارع حتى فاق الخيال ، لقد أصبح أسرع بأضعاف أضعاف ما عرفتهُ الطبيعة وما درسهُ الإنسانُ عنه ، ولأجل ذلك توقف الزمن وصار الماضي هو ما  سيحدث بعد قليل !!
من منكم شاهد حواراً بين أفنان الطبيعة يموت في تعريفه المستحيل لأن القلوب حينما تعشق تكسر قضبان المحرمات و المقيدات و حتى الـــمُسلمات .... حوارٌ بين ضوء الفنار وبين أطوادِ الأمواج حينما تصل لزورقهِ المبحر و ترشدهُ لشاطئ النجاة ، حيث حافية القدمين لما تزل تتلو صلواتها أمام موقد المنارة وبذات الوقت تناجيه بكلِ جسارة ....
حبيبي .... يا مهجة فؤادي أوصلك ضوء فناري ....
حبيبتي ... ها أنا أسمعُ همسكِ إنهُ يلامس شغافي ويحيطُ بعقلي و حواسي وكأنهُ يدٌ تمسك زورقي المتفاني و تدفعني نحو شاطئكِ الجميل....
حبيبي .... ما زلتُ أنتظرك بقلب عاشقةٍ أزلية ترفض أن تموت إلا بين ذراعيك.....

حوارٌ لم يدم أكثر من سرعة الزمن المتوقف آنف الذكر ، ليجد نفسهُ أمام موقد المنارة وقد لطخهُ المحيط المالح بكل أفنان التعب والجوعِ والخوف ، لكنها أنقذته وها هو قد نجى  ، وهي لما تزل راكعةً على ركبتيها مغمضةً عينيها تاليةً لصلواتها ..... بلحظةِ اللالحظة !! وضع يدهُ على شعرها وقال لها بصوتِ العاشق ... لقد عدتُ يا ساكنة الفؤاد بفضل ضوءِ فنارك الذي انتشل زورقي الأخرق ... هيا قومي يا حبيبتي و امسكي بيدي واطفئي نار المنارة الساحر الذي سبق سرعة الضوء كي يعود  الزمن كما كان أريدُ أن أكونَ معكِ للأبد ....
ما  من مجيب على ما قالهُ لها سوى بعضُ طيورِ النورس التي كانت تحلق بشكلٍ إهليلجي فوق رئسيهما بعدما هدأت أنواء العاصفة و بدأ ضوء الفجر يغزو المكان و صار ضوءُ الفنار يخفو بهدوء .... حينها نظر للنوارس ليرى طيفها يطير بالسماء و هي تبتسم وتحلق لما بعد السحاب  ... لقد أنقذته ... حقاً أنقذتهُ ... لكنها نسيت أن تقول له بأنها أطعمت جذوة الحطب من روحها العاشقة بعدما نفذ حطب الفنار فزودت الموقد بروحها الطاهرة ليبقى جسدها مسجاً فوق سطح المنارة وهي تسبح بالملكوت العميق ... العميق .... العميقِ جداً حيث لا يزال الزمن متوقف لأن الأبدية قد أحاطتها فداءً لمن أحبته .

0 التعليقات:

Post a Comment

من أنا

Rasha Khalifa
View my complete profile

Blogroll

 
© جميع الحقوق محفوظة |Study with us sPRk