فلترقد روحها بسـلام

Monday, June 27, 2016

أبو ظبي.  
18/إبريل/2006


كنتُ أعلم أني سأعود، فلقد كان بداخلي ثمة صوت لا يهدأ ولا ينضب ألحانه.

كان صوتها الحنون الذي صيرتهُ مصدر إلهامي، وصيرني المتيم عشقًا والمسافر غربًا وشرقًا والمبحر عمقًا دون كلل بحثاً عن اكتشافِ أي عذرٍ وأي حجةٍ ألقاها بها.. أريدُ كلمــةً واحدة أضعها نصبَ عينيها علها تسامحني و تغفر لي خطيئتي التي اقترفتها قبل السني العشرين الماضية حينما تركت ريعان شبابها يحترقُ أمامي و هو يطالبني البقاء، لكن هيهات هيـهات.

قريتي، كلمةٌ تعني لي الكثير بها طفولتي، بها مدرستي، أزقة ضيقة، حوائط قديمة ملأناها بالماضي أنا ورفاقي بكتابات عبثية.. أصداء ضحكاتنا وبكائنا لاتزال محفورة على الجدران و الزوايا.

كانت السيارة التي تقلني نحو القرية تصعدُ الجبل بسرعةٍ لاحظتها جلياً، فنظرتُ للطريق فوجدتهُ معبد بشكلٍ جيد، تنهدت بداخلي وبدأت بتذكر الماضي الغابر عندما كنا نستغرق الوقت الطويل كي نصل أو نغادر القرية وبدأتُ أتلو صلواتي راجياً أن لا أجد سكانها قد أصابهم التغيير كما الطريق، وبعد قليل وجدتُ السائق يهنئني بالوصول وقد أطفئ محرك السيارة، واندفع نحو الباب ليفتحهُ لي.

حاولتُ أن أعرف موقعي من العالم وإذ بهِ يخبرني بأننا في الساحة العامة للقرية..
اعتلتني الدهشة، أحقاً هذه هي الساحة؟ كلا، محال.. أين نافورة الماء، أين اختفى متجر بائع الحليب، ألم يكن على تلك الناصية منزل عمتي؟ أين اختفت هذه المعالم؟

كل شيء هنا تغير، الأماكن، ملابس أهل القرية، أحقاً هذه قريتي؟ تلوتُ صلواتي بداخلي وأنا مرتعد الفرائص راجياً أن لا أجد التغيير أصاب من عدتُ لأجلها.. وبعد دقائق سرتُ نحو هدفي المنشود .. بالتأكيد كان الطريق لمنزلها أصابهُ التغيير، لكني لا أزال أذكرهُ تماماً، كيف وكل شبرٍ منهُ بنيتُ فيهِ قصراً من ورد وجنائن من ياسمين.

قلبي خفقَ متسارعاً حينما اقتربت من منزلها، ولما وصلت اكتشفت بأنه لم يعد كذلك.. وهذا ما عرفتهُ من كهلٍ كان يستلقي على عتبةِ المنزل بستمتعُ بأشعةِ شمس الربيع الدافئة.

"أين هي يا عمُ؟"  أجاب بأنه لا يعلم، فلم يعد هذا منزل أهلها فقد غادروه منذ أمدٍ بعيد.
"ألا تعلم أين غادر ذويها؟"
"بعد وفاةِ والدها ترك لأسرتهِ إرثاً بغيضاً، دينٌ ثقيل فما كان لأمها بداً سوى بيعِ المنزل ومن ثَمَ المكوث بصحبةِ ابنتها عند أحد أقاربها بقريةٍ أخرى، ولم أعد أعلم يا بني ماذا جرى لها بعد ذلك."

كان الزمن بداخلي مريع، تارةً يعودُ فيني نحو الماضي الجميل، وتارةً ينبهني بأني لا أملك من الوقت الكثير لأني ملزم بالعودة حيث أتيت فالزمن المتبقي لي قصير و صوتُ نفاث الطائرة بالمطار يكاد يلتهم أذني، فالصراع بداخلي كبير جداً..

تبادلتُ الحديث مع الكهل و تطرقتُ لعدةِ مواضيع علني أصل لضالتي، لكني لم أفلح، وخلصتُ بأني بعيد عن مبتغاي، فاندفعتُ نحو المجهول، نحو أناسٍ لا أعرفهم أسألهم عنها ..

صبية تلعب أمام المنازل .. نسوةٌ تتبادل أطراف الحديث من الشرفات .. رجالٌ عائدون للتو من الحصاد ..
هنالك من تَّعرفَ علي وهنالك من تعرفتُ عليهِ .. هذا لا يهمني، ما يهمني هي!
كانت الأجوبةُ متلاطمة، مشتتة، بلا فائدة وكأن الجميع يتهرب من الإجابة ومعظمهم نظر إليَّ بغضب و انصرف عني.

وعندما أصابني القنوط قررتُ أن أعود، لأن القرية باتت بأعيني ظلاماً دامساً، ولم أعد أطيقُ أي كلمة لا أجد منها قبس نورٍ يرشدني لها، توجهت نحو مقبرة القرية، حيث قررت قبل رحيلي أن أتلو صلواتي على قبر والدي، حتى القبور لم تعد منتظمة كالسابق فكانت مبعثرة بشكلٍ عشوائي، و بداخلي ثمة صوتان، الأول يدعوني للانصراف و العودة من حيث أتيت و الآخر يدعوني أن أقرأ شواهد كل القبور التي أمامي علني أهتدي لقبر والدي فأسلم عليهِ وأقرأ عليهِ صلواتي.

و بعد حوارٍ مع ذاتي خلصتُ للرأي الثاني، وبدأتُ بالطوافِ حول كل قبرٍ أحاول قراءة شاهدته، كانت الخطوط رديئة و تارةً متآكلة نتيجة الزمن.. بدأ شعور الغضب و اليأس يملأ صدري فلم أشعر أني موفق ذلك اليومِ أبداً.

حتى وقعت الطامة على رأسي كالزلزال، ما هذا الاسم الذي قرأتهُ على هذا القبر.. كلا، مستحيل! عاودتُ القراءة مراتٍ تلو المرات، تحسستُ الحروف بيدي .. ثم عاودت القراءة، كنت لا أزال في الصدمة الكبيرة التي أعيشها، ما بين مصدقٍ ومكذب، ما بين مستحيل و حقيقة، إنهُ اسمها .. لربما تشابهُ أسماء و لكن محالٌ أن يكون الاسم بكاملهِ متشابه وكذلك تاريخ الميلاد، إني أحفظ كل حرفٍ من اسمها كيفَ و كل حرفٍ كان أساس و نهجَ أبجديتي.

تاريخُ ميلادها كنت أراهُ أمام أعيني آناء كل لمحة.. وبلا شعور غمرتني الدموعُ، ثم ارتميتُ على القبرِ أحتضنهُ وأقبلهُ، ثم ازدادت وتيرة صراخي وعويلي، فلم أعد أشعرُ بأي محيطٍ حولي .. الجو .. الضوء .. المكان فأنا بعالمٍ آخــر.

صوتُ بكائي جذبَ حفار القبورِ الذي كان يراقبني عن بعد، واقترب مني، لم أكن أستوعب ما يقولهُ لي .. بدأ يربتُ على كتفي مع ذلك لم أتوقف عن البكاء.

فجأة توقفتُ عن الصراخ وحدقتُ إليهِ بعينتين جاحظتين من شدةِ الاستغراب، كيف عرف اسمي وهو يقول لي: "على رسلكَ يا بني تصَّبر وتَّـجلد" .. "هل تعرفُني يا عمُ؟" .. "كلا يا بني" .. "ومن أينَ عرفتَ اسمي؟" .. "من صاحبةِ هذا القبرَ" .. "وكيفَ أخبرني أرجوك؟"

إن المرحومة قاطنةَ هذا القبرَ توفيت قبل اثني عشرَ عاماً إثر مرضٍ عضال أنهكَ جسدها، وحينما علمت بدنو أجلها أتت إليَ وعرفتني بشخصها وطلبت مني أن أختارَ لها قبراً بعيداً عن القبور الأخرى، ثم أقسمت عليَ بأن أترك المساحة التي على يمين قبرها فارغة مهما طال الزمن حتى لو اتسعت المقبرةُ وازدادت حجماً، وأن لا أدفن بها أحد وأخذت علي عهداً بذلك .. و قالت لي: "يوماً ما سيأتيكَ شخصٌ اسمهُ فلان سيقفُ على قبري و سيبكي متألماً كالأطفال، حينها أخبرهُ بأني أقرئهُ السلام و أخبرهُ بأني سامحتهُ من صميم قلبي، وبأني متُ و بداخلي قد عفوتُ عن كلِ ما اقترفهُ من أخطاءٍ تجاهي، بعد ذلك أخبرهُ بأني أوصيتُ بتركِ المساحةِ التي على يمين قبري فارغة لأنها ستكون قبرهُ يوما ما بعد عمرٍ طويل .. وأخبرهُ بأن الربيع بداخلي - الذي عشناه معا - لم يمت بموتي، فهو ربيع خالد وباقٍ ما بقيت الحياة، فكل فراشةٍ فيهِ كانت يرقاتها الأولى تنام في راحتيهِ وتشرب من مقلتيه، وحينما يقف أمام قبري فليعلم يقيناً بأن روحي سترقد وقتئذٍ بسلام."

لا يوجد بعلوم الكلام أي تعبير أستطيع أن أصف بهِ شعوري بعد سماع هذا الكلام من حفار القبور فمن المحال لأي كلامٍ بشري أن يعبر عما بداخلي، فما كنت أعيشه أشبه بالمستحيل.

جثوتُ على ركبتاي ويممت وجهي شطر قبرها وبداخلي آلاف العبارات التي ينسجها تفكيري، مختلطةً ما بينَ ألمٍ و ندم، وكم تمنيت بأن أكون مع حلول المساء راقداً في المساحة التي تركتها لي، كي أكون بجوارها .. عينتاي المغمضتين جعلتني أرى بوضوحٍ ذلك الربيع الجميل من حولي ناثراً الفراشات التي تتطاير حولها، حيث كانت تحطُ زُرافاتٍ وزُرافات على راحتيها .. لم تكن ترتدي ملابس كالنساء .. كانت ترتدي وشاحاً ناصع البياض لم ترى عيني أجمل منه، وما لبث أن خرج من وشاحها جناحان كبيران، لتطير عبرهما نحو السماء و تبعتها جميع الفراشات، حينها فتحتُ أعيني، ثم احتضنت قبرها بحنان، بعدما تأكدتُ تماماً بأن روحها ترقد الآن بسلام لأنها تحولت لملاك.                                                             

0 التعليقات:

Post a Comment

من أنا

Rasha Khalifa
View my complete profile

Blogroll

 
© جميع الحقوق محفوظة |Study with us sPRk