إحساس الذاكـرة

Monday, June 27, 2016

 أبو ظبي.    
22/ مايو/2011

بلحظةٍ لا نعرفها ولا ندرك تاريخها تعبرنا نسمةٌ ذات أريج، هيأتها الأقدار للأمر والسحر معاً، لنكتشف أنها تجردنا من كل شيء ماعدا ذكرياتنا، فتعود فينا للوراء ولربما تقيدنا تلك النسمة العابرة بشراسة رغم ضعفها و برائتها، وإذا ما استدعت إحساسنا فلربما تنقلب الأمور لتصبح أكثر تعقيداً مما نتخيل.

حينما تصدر إشارات العقل الذكري محملةً بالدهاء والمكر، فلربما تكون الأنثى مصدر تدفق تلك الإشارات، فعشرات الخطط، وأجمل الكلمات التي جُمعت من أرق الأشعار، وانتهاز أشباه الفرص، وترصد المناسبات كل هذه الأشياء ترجمها (أديب) لوسائل غريبه جعلتهُ بالنهاية ينجح بجذب اهتمام (سلمى)، تلك العنيدةُ التي استعصت على كلماتهِ الحنونة، كما تستعصي جذوع الأشجار عن الكسر بمنقار الكروان، حيث يلجئ الكروان فيما بعد لغزو الجذعِ بتغريدهِ الشجي ليجعل من الأغصان مسرحاً يجذب الجمال والحنين معاً.

كان الزمان مجهولاً، أما المكان فهو مقهى بديع حُجِزَ فيه كرسيان توشحا بمخملٍ وردي، وطاولاتٍ أخرى منتشره حولهما تضمُ عشاقاً مجاورين، فلا صوت هنا أعلى من صوتِ هدير القلوب العاشقة التي تنبعث من رواد المقهى، حيث يطوف النُدل حولهم آخذين طلباتهم بلطافة ورائحة الياسمين تكاد تُسنشق من الآذان على وقعِ الكلماتِ الساحرةِ التي يتابدلها العشاق، ومصادر لهيبٍ أخرى تنبعثُ من أيادٍ متشابكة قابلة للانفجار بأي لحظة .. حينما يقف عقرب الساعة عند السابعة مساءاً سيكون الزمان معلوماً الآن، إنهُ الوقت الذي سيجمعُ (أديب) مع من استسلمت أخيراً أمام جميع محاولاتهِ، إنها (سلمى)، تلك العنيدة التي استهلكت أوقات تفكير وتخطيط مهولة منه كي يتم ذلك اللقاء.

منذ أبرم (أديب) الموعد قبل ثلاثة أيام ظل خلالها حالماً متخيلاً له، كيف سيُقبِل يدها حينما يستقبلها، هل سينظر لعينيها الفاتنتين، هل سينبعثُ منها أريج اللافندر الذي يأسره .. سأغلقُ هاتفي قطعاً ليتسنى لي استغلال كل ثانية من لقائي معها، لن أتوقف عن إملاء وإمتاع ناظريا بها، سأكون منصتاً صامتاً لأن الصمت في حرمِ الجمال جمالُ ..

وحينما اختُزِل الزمن ببطئ شديد واقترب الموعد المنشود ولم يبقى سوى ساعتين فقط وتحل اللحظات التي تم انتظارها طويلاً، اندفع (أديب) نحو غرفة الملابس كي يتهيئ للقائها، فأخرج أجمل ما يملك من ثياب وظل لدقائق يطابق ألوان القميص والبنطال وربطة العنق، يلبس تلك ثم يخلعُ هاتيك، يرتبُ شعره هكذا ثم ينظر للمرآة فيعيد رسم غرتهِ من جديد، تأمل كل زجاجات العطور المنتصبة في خزانته علهُ ينجح باستخدام أكثرها سحراً وعبير، كان عقلهُ مغيباً عن كل ما يحيط بهِ، ولا شيء في ذاكرتهِ سوى صورتها البديعة وقد اشتعلت جمالاً وبريقاً كنجمةٍ هبطت من فنار الكون لتضيء كل خبايا حياته.
وبعدما أنهى صاحبنا تجميل قالبهِ الخارجي، وقف لبرهةٍ أمام المرآة غير متناسياً للزمن المتبقي للقاء والذي أصبح يقاس بالدقائق بدلاً عن الأيام، وحينما هَمَّ بالخروج ولأجل أن يكون للقدر موطئ قدمٍ في قصته، وَلَجت زوجتهُ الغرفة، فتسمر في مكانهِ وهو لما يزل واقفاً أمام المرآة، حيث أبدت إعجابها العميق بأناقة زوجها، كما أبدت سعادتها و دهشتها بذات الوقت، سعادتها كونها ترى الآن زوجها فَرِحاً بعدما مرت أيامٌ طوال أمضاها حزينا كئيباً منغلقاً على ذاتهِ، صائماً عن الكلام، يشتعلُ غضباً من أدنى الأشياء، أما دهشتها فكان مصدرهُ سببُ تبدلِ حالتهِ فجأة ودونما سابق إنذار، أما نحن فقد لا يتوالد بأعماقنا أيا من تلك التساؤلات، لأن رائحة الياسمين لا تزال تنبعثُ من المقهى و عقرب الساعة اقترب كثيراً من السابعة.

آهٍ يا حبيبي ما أوسم محياك، هل يسمحُ أميري الصغير أن أضع عليهِ بعض لمساتي! لتندفع نحوهُ وتعيد فك ربطة العنق ثم تعاود تشكيلها من جديدٍ بطريقة أفضل .. ما أروع رائحةَ عِطرك إنها تعذبني كثيراً لا أستطيعُ أن أقاوم إراحة رأسي على صدرك، وحينما عانقتهُ بحنان، استنشقَ أريج اللافندر بشكلٍ غريب، نعم ذلك الأريجُ الذي كان ينتظر أن يلقاهُ في شَعرِ (سلمى) ها هو ينبعث من شَعرِ زوجتهِ باندفاع .. لقد أحس بسريانٍ غريب داخل أوردةِ جسده، وكأنها المرةُ الأولى التي يعانق فيها زوجتهْ، لقد أحسَ بعاطفةٍ جياشة تغزو كيانه دون توقف، ليتحرك الصنم أخيراً وتمتدُ سواعدهُ خلف ظهر زوجتهِ ويعانقها أيضاً والحنان يغمره.

"أين سيذهب أميري الصغير بهذه الأناقة الساحرة، آه لا يهمني أين وجهتهُ، ما يهمني أنهُ في طور سعادتهِ الآن، ما أجمل القدر يا حبيبي والذي جعل منكَ زوجاً لي، وكم أتمنى أن يمتد العمرُ فيني كي أبقى أسيرةَ عينيكَ يا محركَ روحي وخيالي .. هيا أيها الوسيم انطلق لموعدك واتركني مع ما تبقى من طيفكَ الجميل حتى يكون ونيسي أثناء غيابكِ عني، هيا يا فؤادي إذهب وعين الله ترعاك."

خرج (أديب) من المنزل دون أن تتحرك شفتاهُ بالكلام، كان متثاقلاً بمشيته، وآلافٌ من الأفكار تتصارع بعقلهِ، كانت الذكريات تنشئ ملحماتها في باطن خياله، لقد عاد بالزمان للخلف، وتذكر ذلك اليوم الذي تعرف فيهِ على زوجته حيث سحرهُ ذلك الحدق الفتان المختبئ بعينتين ناعستين، و ابتسامةٍ جذابةٍ يضعفُ أمامها كلام الشعراء، لقد غمرتهُ بحبٍ جارف، لتندفع بعروقهِ كما يندفع السيل عبر أخاديد الأرض فيجرف كل ما يلقاه، لقد كانت مثالاً للإخلاص والمحبه له، كم تحملت ترهاتهِ وتقلب مزاجه، كم كانت صبورةً أمام انفعالاته، كانت أصابعها الجميلة تمسحُ أحزانه في كل مرةٍ يريح جبينهُ على يديها الناعمتين، وها هي تودعهُ والحزنُ يقطرُ من عينيها لأنها تشكُ بموعدهِ الغرامي هذا، لكنها مع ذلك تُكذِبُ واقعها فقط كي لا تجرح شعورهُ، حقاً إنها مَلَكٌ كريم.

جلس على مقعد السيارة دون أن يدير المحرك، لأن محرك عقله كان يعمل بصمتٍ رهيب، لقد دفعتهُ حماقاتهُ لهذا الموقف الغريب من حياته، زوجةٌ جميلةٌ مخلصة وبذور خيانة لا مبرر لها، و حالةُ تخبطٍ عاطفي وفكري تزمجر بعقله، وصورٌ تتراكم أمام عينيه لا يستطيعُ كبح جماحها، حيث تظهر له صورة (سلمى) وهي تنتظرهُ لتحل مكانها صورة زوجتهِ المخلصة و هي تعيد ترتيب ربطة عنقهُ، ولما اشتد عليه وقعُ الذكريات وتداخلت أصداء الحوارات وامتزجت ألوان الحقيقة والوهم، وحينما فقد السيطرة على مشاعره صرخ بأعلى قوته وهو لما يزل داخل سيارته، ثم ألقى برأسهِ على عجلة القيادة وأخذ يبكي بهدوء، وبعد أن بردت أعصابه واستراح الجسد بخروج الدموع، نظر للساعة وتذكر الشيء المهم بحياته، ليلتقط هاتفه ويجري اتصالاته ثم يدير محرك السيارة كي ينطلق نحو الموعد المنشود.

وصل متأخرا للمقهى البديع، ليقبل يدها بحنان، وجلسا معاً ولا صوت هنا أعلى من صوتِ هدير القلوب العاشقة التي تنبعث من رواد المقهى، لقد كان ينظر إلى عينيها بتأملٍ جديد، أما هي فقد كانت تنظر لمحياه وترى فصل الربيع يتشكل من احمرار آثار الدموع بعينيه والتي نزفها كثيراً، وبعد تبادل الصمت والتأمل و الإعجاب، نطقت باستحياءٍ وقالت: "دعنا لا نتكلم عن الماضي إنه لايهمني، ولكن حدثني عن الأيام القادمة فالكلام عنها الآن يعطينا مزيداً من الأمل" .. لقد صارحها (أديب) بحبهِ الكبير، إنهُ لا يخشى شيئاً الآن، ولم تعد تراودهُ أي أفكارٍ أخرى كتلك التي روادتهُ قبل اللقاء، وحينما حانت ساعة الإفتراق، تأمل عينيها كثيراً ويداهُ تستلهم الدفء من يديها لينحني على جبينها ويطبع قبلةً فيها كل آيات الحب و الجمال، بعد ذلك خرجا من المقهى وفي قلبيهما من العشق المتبادل ما يكفي لصنعِ زورقٍ من أوراق الورد يخترق عباب المحيطات الساحرة.

وحينما عاد للمنزل شكرتهُ زوجتهُ كثيراً على تلك الأمسية الجميلة التي أمضتها معه، لتعانقهُ من جديد وتهمسُ في أذنه وتقول "إني أحبك" .. ما أذكاها الأنثى حينما تستطيعُ استيعاب الرجل عبر حنانها ورقتها، وما أغباها حينما تجعلهُ يغادر أغصانها بحثاً عن غصنٍ دافئ آخر لا تتوفر فيه بالضرورة مسببات التغيير ، مجرد لمساتٍ حنونة وكلمات صادقة، جعلت (أديب) يلتقط هاتفه في السيارة ويرسل رسالتين، كانت الأولى (لسلمى) التي اعتذر لها عن القدوم، بل اعتذر لها عن أي لقاءٍ مستقبلي، أما الرسالة الثانية ارسلها لزوجته وقال فيها: حبيبتي الأبدية، كم أكون سعيداً لو رافقتني حسنائي لتكون الأنثى الأحق دون سواها بأن تكون جليستي هذا المساء.


0 التعليقات:

Post a Comment

من أنا

Rasha Khalifa
View my complete profile

Blogroll

 
© جميع الحقوق محفوظة |Study with us sPRk