.

.

يا حبيبي ..

Monday, June 27, 2016

أي كـلامٍ أبـوحُ لكَ فـيهِ يـا حـبيبي
أذاكَ المُعَبرُ عن حنيني أم تعذيبي

لي في ثنايـا العشقِ عِلةٌ مـكنونةٌ
وأنـتَ الـمُبرئُ لأنينهـا يـا طـبيبي

أَبرئها بنظرةٍ من سحـرِ عينيـكَ
وحطم بها جدار الظلامِ الكئيب ِ

وانتشلني من ضياعِ الروحِ التي
تسربلت بأطمارِ حُبـِكَ المُهيب ِ

كــم نـاجيتُ سـفينتكَ بـفنارٍ
أوقدتُ ضوئهُ من ناري و لهيبي

مستدعياً قدميكَ وطئَ شواطئي
حتى تُزيلَ بعطفكَ الماضي الرتيب ِ

صوتُكَ الشادي يسكنُ أضلعي
فاستزد منهُ عليَّا بُكرةً ومَغيب ِ

وأطفئ بهمسكَ ناراً أوقدتها
أوجاعُ أشجاني وعَـصفُ نحيبي

فلولا هواكَ لم يكن جسدي
رماداً تذروهُ الرياحُ لكلِ بعيدِ

فلترقد روحها بسـلام

أبو ظبي.  
18/إبريل/2006


كنتُ أعلم أني سأعود، فلقد كان بداخلي ثمة صوت لا يهدأ ولا ينضب ألحانه.

كان صوتها الحنون الذي صيرتهُ مصدر إلهامي، وصيرني المتيم عشقًا والمسافر غربًا وشرقًا والمبحر عمقًا دون كلل بحثاً عن اكتشافِ أي عذرٍ وأي حجةٍ ألقاها بها.. أريدُ كلمــةً واحدة أضعها نصبَ عينيها علها تسامحني و تغفر لي خطيئتي التي اقترفتها قبل السني العشرين الماضية حينما تركت ريعان شبابها يحترقُ أمامي و هو يطالبني البقاء، لكن هيهات هيـهات.

قريتي، كلمةٌ تعني لي الكثير بها طفولتي، بها مدرستي، أزقة ضيقة، حوائط قديمة ملأناها بالماضي أنا ورفاقي بكتابات عبثية.. أصداء ضحكاتنا وبكائنا لاتزال محفورة على الجدران و الزوايا.

كانت السيارة التي تقلني نحو القرية تصعدُ الجبل بسرعةٍ لاحظتها جلياً، فنظرتُ للطريق فوجدتهُ معبد بشكلٍ جيد، تنهدت بداخلي وبدأت بتذكر الماضي الغابر عندما كنا نستغرق الوقت الطويل كي نصل أو نغادر القرية وبدأتُ أتلو صلواتي راجياً أن لا أجد سكانها قد أصابهم التغيير كما الطريق، وبعد قليل وجدتُ السائق يهنئني بالوصول وقد أطفئ محرك السيارة، واندفع نحو الباب ليفتحهُ لي.

حاولتُ أن أعرف موقعي من العالم وإذ بهِ يخبرني بأننا في الساحة العامة للقرية..
اعتلتني الدهشة، أحقاً هذه هي الساحة؟ كلا، محال.. أين نافورة الماء، أين اختفى متجر بائع الحليب، ألم يكن على تلك الناصية منزل عمتي؟ أين اختفت هذه المعالم؟

كل شيء هنا تغير، الأماكن، ملابس أهل القرية، أحقاً هذه قريتي؟ تلوتُ صلواتي بداخلي وأنا مرتعد الفرائص راجياً أن لا أجد التغيير أصاب من عدتُ لأجلها.. وبعد دقائق سرتُ نحو هدفي المنشود .. بالتأكيد كان الطريق لمنزلها أصابهُ التغيير، لكني لا أزال أذكرهُ تماماً، كيف وكل شبرٍ منهُ بنيتُ فيهِ قصراً من ورد وجنائن من ياسمين.

قلبي خفقَ متسارعاً حينما اقتربت من منزلها، ولما وصلت اكتشفت بأنه لم يعد كذلك.. وهذا ما عرفتهُ من كهلٍ كان يستلقي على عتبةِ المنزل بستمتعُ بأشعةِ شمس الربيع الدافئة.

"أين هي يا عمُ؟"  أجاب بأنه لا يعلم، فلم يعد هذا منزل أهلها فقد غادروه منذ أمدٍ بعيد.
"ألا تعلم أين غادر ذويها؟"
"بعد وفاةِ والدها ترك لأسرتهِ إرثاً بغيضاً، دينٌ ثقيل فما كان لأمها بداً سوى بيعِ المنزل ومن ثَمَ المكوث بصحبةِ ابنتها عند أحد أقاربها بقريةٍ أخرى، ولم أعد أعلم يا بني ماذا جرى لها بعد ذلك."

كان الزمن بداخلي مريع، تارةً يعودُ فيني نحو الماضي الجميل، وتارةً ينبهني بأني لا أملك من الوقت الكثير لأني ملزم بالعودة حيث أتيت فالزمن المتبقي لي قصير و صوتُ نفاث الطائرة بالمطار يكاد يلتهم أذني، فالصراع بداخلي كبير جداً..

تبادلتُ الحديث مع الكهل و تطرقتُ لعدةِ مواضيع علني أصل لضالتي، لكني لم أفلح، وخلصتُ بأني بعيد عن مبتغاي، فاندفعتُ نحو المجهول، نحو أناسٍ لا أعرفهم أسألهم عنها ..

صبية تلعب أمام المنازل .. نسوةٌ تتبادل أطراف الحديث من الشرفات .. رجالٌ عائدون للتو من الحصاد ..
هنالك من تَّعرفَ علي وهنالك من تعرفتُ عليهِ .. هذا لا يهمني، ما يهمني هي!
كانت الأجوبةُ متلاطمة، مشتتة، بلا فائدة وكأن الجميع يتهرب من الإجابة ومعظمهم نظر إليَّ بغضب و انصرف عني.

وعندما أصابني القنوط قررتُ أن أعود، لأن القرية باتت بأعيني ظلاماً دامساً، ولم أعد أطيقُ أي كلمة لا أجد منها قبس نورٍ يرشدني لها، توجهت نحو مقبرة القرية، حيث قررت قبل رحيلي أن أتلو صلواتي على قبر والدي، حتى القبور لم تعد منتظمة كالسابق فكانت مبعثرة بشكلٍ عشوائي، و بداخلي ثمة صوتان، الأول يدعوني للانصراف و العودة من حيث أتيت و الآخر يدعوني أن أقرأ شواهد كل القبور التي أمامي علني أهتدي لقبر والدي فأسلم عليهِ وأقرأ عليهِ صلواتي.

و بعد حوارٍ مع ذاتي خلصتُ للرأي الثاني، وبدأتُ بالطوافِ حول كل قبرٍ أحاول قراءة شاهدته، كانت الخطوط رديئة و تارةً متآكلة نتيجة الزمن.. بدأ شعور الغضب و اليأس يملأ صدري فلم أشعر أني موفق ذلك اليومِ أبداً.

حتى وقعت الطامة على رأسي كالزلزال، ما هذا الاسم الذي قرأتهُ على هذا القبر.. كلا، مستحيل! عاودتُ القراءة مراتٍ تلو المرات، تحسستُ الحروف بيدي .. ثم عاودت القراءة، كنت لا أزال في الصدمة الكبيرة التي أعيشها، ما بين مصدقٍ ومكذب، ما بين مستحيل و حقيقة، إنهُ اسمها .. لربما تشابهُ أسماء و لكن محالٌ أن يكون الاسم بكاملهِ متشابه وكذلك تاريخ الميلاد، إني أحفظ كل حرفٍ من اسمها كيفَ و كل حرفٍ كان أساس و نهجَ أبجديتي.

تاريخُ ميلادها كنت أراهُ أمام أعيني آناء كل لمحة.. وبلا شعور غمرتني الدموعُ، ثم ارتميتُ على القبرِ أحتضنهُ وأقبلهُ، ثم ازدادت وتيرة صراخي وعويلي، فلم أعد أشعرُ بأي محيطٍ حولي .. الجو .. الضوء .. المكان فأنا بعالمٍ آخــر.

صوتُ بكائي جذبَ حفار القبورِ الذي كان يراقبني عن بعد، واقترب مني، لم أكن أستوعب ما يقولهُ لي .. بدأ يربتُ على كتفي مع ذلك لم أتوقف عن البكاء.

فجأة توقفتُ عن الصراخ وحدقتُ إليهِ بعينتين جاحظتين من شدةِ الاستغراب، كيف عرف اسمي وهو يقول لي: "على رسلكَ يا بني تصَّبر وتَّـجلد" .. "هل تعرفُني يا عمُ؟" .. "كلا يا بني" .. "ومن أينَ عرفتَ اسمي؟" .. "من صاحبةِ هذا القبرَ" .. "وكيفَ أخبرني أرجوك؟"

إن المرحومة قاطنةَ هذا القبرَ توفيت قبل اثني عشرَ عاماً إثر مرضٍ عضال أنهكَ جسدها، وحينما علمت بدنو أجلها أتت إليَ وعرفتني بشخصها وطلبت مني أن أختارَ لها قبراً بعيداً عن القبور الأخرى، ثم أقسمت عليَ بأن أترك المساحة التي على يمين قبرها فارغة مهما طال الزمن حتى لو اتسعت المقبرةُ وازدادت حجماً، وأن لا أدفن بها أحد وأخذت علي عهداً بذلك .. و قالت لي: "يوماً ما سيأتيكَ شخصٌ اسمهُ فلان سيقفُ على قبري و سيبكي متألماً كالأطفال، حينها أخبرهُ بأني أقرئهُ السلام و أخبرهُ بأني سامحتهُ من صميم قلبي، وبأني متُ و بداخلي قد عفوتُ عن كلِ ما اقترفهُ من أخطاءٍ تجاهي، بعد ذلك أخبرهُ بأني أوصيتُ بتركِ المساحةِ التي على يمين قبري فارغة لأنها ستكون قبرهُ يوما ما بعد عمرٍ طويل .. وأخبرهُ بأن الربيع بداخلي - الذي عشناه معا - لم يمت بموتي، فهو ربيع خالد وباقٍ ما بقيت الحياة، فكل فراشةٍ فيهِ كانت يرقاتها الأولى تنام في راحتيهِ وتشرب من مقلتيه، وحينما يقف أمام قبري فليعلم يقيناً بأن روحي سترقد وقتئذٍ بسلام."

لا يوجد بعلوم الكلام أي تعبير أستطيع أن أصف بهِ شعوري بعد سماع هذا الكلام من حفار القبور فمن المحال لأي كلامٍ بشري أن يعبر عما بداخلي، فما كنت أعيشه أشبه بالمستحيل.

جثوتُ على ركبتاي ويممت وجهي شطر قبرها وبداخلي آلاف العبارات التي ينسجها تفكيري، مختلطةً ما بينَ ألمٍ و ندم، وكم تمنيت بأن أكون مع حلول المساء راقداً في المساحة التي تركتها لي، كي أكون بجوارها .. عينتاي المغمضتين جعلتني أرى بوضوحٍ ذلك الربيع الجميل من حولي ناثراً الفراشات التي تتطاير حولها، حيث كانت تحطُ زُرافاتٍ وزُرافات على راحتيها .. لم تكن ترتدي ملابس كالنساء .. كانت ترتدي وشاحاً ناصع البياض لم ترى عيني أجمل منه، وما لبث أن خرج من وشاحها جناحان كبيران، لتطير عبرهما نحو السماء و تبعتها جميع الفراشات، حينها فتحتُ أعيني، ثم احتضنت قبرها بحنان، بعدما تأكدتُ تماماً بأن روحها ترقد الآن بسلام لأنها تحولت لملاك.                                                             

إحساس الذاكـرة

 أبو ظبي.    
22/ مايو/2011

بلحظةٍ لا نعرفها ولا ندرك تاريخها تعبرنا نسمةٌ ذات أريج، هيأتها الأقدار للأمر والسحر معاً، لنكتشف أنها تجردنا من كل شيء ماعدا ذكرياتنا، فتعود فينا للوراء ولربما تقيدنا تلك النسمة العابرة بشراسة رغم ضعفها و برائتها، وإذا ما استدعت إحساسنا فلربما تنقلب الأمور لتصبح أكثر تعقيداً مما نتخيل.

حينما تصدر إشارات العقل الذكري محملةً بالدهاء والمكر، فلربما تكون الأنثى مصدر تدفق تلك الإشارات، فعشرات الخطط، وأجمل الكلمات التي جُمعت من أرق الأشعار، وانتهاز أشباه الفرص، وترصد المناسبات كل هذه الأشياء ترجمها (أديب) لوسائل غريبه جعلتهُ بالنهاية ينجح بجذب اهتمام (سلمى)، تلك العنيدةُ التي استعصت على كلماتهِ الحنونة، كما تستعصي جذوع الأشجار عن الكسر بمنقار الكروان، حيث يلجئ الكروان فيما بعد لغزو الجذعِ بتغريدهِ الشجي ليجعل من الأغصان مسرحاً يجذب الجمال والحنين معاً.

كان الزمان مجهولاً، أما المكان فهو مقهى بديع حُجِزَ فيه كرسيان توشحا بمخملٍ وردي، وطاولاتٍ أخرى منتشره حولهما تضمُ عشاقاً مجاورين، فلا صوت هنا أعلى من صوتِ هدير القلوب العاشقة التي تنبعث من رواد المقهى، حيث يطوف النُدل حولهم آخذين طلباتهم بلطافة ورائحة الياسمين تكاد تُسنشق من الآذان على وقعِ الكلماتِ الساحرةِ التي يتابدلها العشاق، ومصادر لهيبٍ أخرى تنبعثُ من أيادٍ متشابكة قابلة للانفجار بأي لحظة .. حينما يقف عقرب الساعة عند السابعة مساءاً سيكون الزمان معلوماً الآن، إنهُ الوقت الذي سيجمعُ (أديب) مع من استسلمت أخيراً أمام جميع محاولاتهِ، إنها (سلمى)، تلك العنيدة التي استهلكت أوقات تفكير وتخطيط مهولة منه كي يتم ذلك اللقاء.

منذ أبرم (أديب) الموعد قبل ثلاثة أيام ظل خلالها حالماً متخيلاً له، كيف سيُقبِل يدها حينما يستقبلها، هل سينظر لعينيها الفاتنتين، هل سينبعثُ منها أريج اللافندر الذي يأسره .. سأغلقُ هاتفي قطعاً ليتسنى لي استغلال كل ثانية من لقائي معها، لن أتوقف عن إملاء وإمتاع ناظريا بها، سأكون منصتاً صامتاً لأن الصمت في حرمِ الجمال جمالُ ..

وحينما اختُزِل الزمن ببطئ شديد واقترب الموعد المنشود ولم يبقى سوى ساعتين فقط وتحل اللحظات التي تم انتظارها طويلاً، اندفع (أديب) نحو غرفة الملابس كي يتهيئ للقائها، فأخرج أجمل ما يملك من ثياب وظل لدقائق يطابق ألوان القميص والبنطال وربطة العنق، يلبس تلك ثم يخلعُ هاتيك، يرتبُ شعره هكذا ثم ينظر للمرآة فيعيد رسم غرتهِ من جديد، تأمل كل زجاجات العطور المنتصبة في خزانته علهُ ينجح باستخدام أكثرها سحراً وعبير، كان عقلهُ مغيباً عن كل ما يحيط بهِ، ولا شيء في ذاكرتهِ سوى صورتها البديعة وقد اشتعلت جمالاً وبريقاً كنجمةٍ هبطت من فنار الكون لتضيء كل خبايا حياته.
وبعدما أنهى صاحبنا تجميل قالبهِ الخارجي، وقف لبرهةٍ أمام المرآة غير متناسياً للزمن المتبقي للقاء والذي أصبح يقاس بالدقائق بدلاً عن الأيام، وحينما هَمَّ بالخروج ولأجل أن يكون للقدر موطئ قدمٍ في قصته، وَلَجت زوجتهُ الغرفة، فتسمر في مكانهِ وهو لما يزل واقفاً أمام المرآة، حيث أبدت إعجابها العميق بأناقة زوجها، كما أبدت سعادتها و دهشتها بذات الوقت، سعادتها كونها ترى الآن زوجها فَرِحاً بعدما مرت أيامٌ طوال أمضاها حزينا كئيباً منغلقاً على ذاتهِ، صائماً عن الكلام، يشتعلُ غضباً من أدنى الأشياء، أما دهشتها فكان مصدرهُ سببُ تبدلِ حالتهِ فجأة ودونما سابق إنذار، أما نحن فقد لا يتوالد بأعماقنا أيا من تلك التساؤلات، لأن رائحة الياسمين لا تزال تنبعثُ من المقهى و عقرب الساعة اقترب كثيراً من السابعة.

آهٍ يا حبيبي ما أوسم محياك، هل يسمحُ أميري الصغير أن أضع عليهِ بعض لمساتي! لتندفع نحوهُ وتعيد فك ربطة العنق ثم تعاود تشكيلها من جديدٍ بطريقة أفضل .. ما أروع رائحةَ عِطرك إنها تعذبني كثيراً لا أستطيعُ أن أقاوم إراحة رأسي على صدرك، وحينما عانقتهُ بحنان، استنشقَ أريج اللافندر بشكلٍ غريب، نعم ذلك الأريجُ الذي كان ينتظر أن يلقاهُ في شَعرِ (سلمى) ها هو ينبعث من شَعرِ زوجتهِ باندفاع .. لقد أحس بسريانٍ غريب داخل أوردةِ جسده، وكأنها المرةُ الأولى التي يعانق فيها زوجتهْ، لقد أحسَ بعاطفةٍ جياشة تغزو كيانه دون توقف، ليتحرك الصنم أخيراً وتمتدُ سواعدهُ خلف ظهر زوجتهِ ويعانقها أيضاً والحنان يغمره.

"أين سيذهب أميري الصغير بهذه الأناقة الساحرة، آه لا يهمني أين وجهتهُ، ما يهمني أنهُ في طور سعادتهِ الآن، ما أجمل القدر يا حبيبي والذي جعل منكَ زوجاً لي، وكم أتمنى أن يمتد العمرُ فيني كي أبقى أسيرةَ عينيكَ يا محركَ روحي وخيالي .. هيا أيها الوسيم انطلق لموعدك واتركني مع ما تبقى من طيفكَ الجميل حتى يكون ونيسي أثناء غيابكِ عني، هيا يا فؤادي إذهب وعين الله ترعاك."

خرج (أديب) من المنزل دون أن تتحرك شفتاهُ بالكلام، كان متثاقلاً بمشيته، وآلافٌ من الأفكار تتصارع بعقلهِ، كانت الذكريات تنشئ ملحماتها في باطن خياله، لقد عاد بالزمان للخلف، وتذكر ذلك اليوم الذي تعرف فيهِ على زوجته حيث سحرهُ ذلك الحدق الفتان المختبئ بعينتين ناعستين، و ابتسامةٍ جذابةٍ يضعفُ أمامها كلام الشعراء، لقد غمرتهُ بحبٍ جارف، لتندفع بعروقهِ كما يندفع السيل عبر أخاديد الأرض فيجرف كل ما يلقاه، لقد كانت مثالاً للإخلاص والمحبه له، كم تحملت ترهاتهِ وتقلب مزاجه، كم كانت صبورةً أمام انفعالاته، كانت أصابعها الجميلة تمسحُ أحزانه في كل مرةٍ يريح جبينهُ على يديها الناعمتين، وها هي تودعهُ والحزنُ يقطرُ من عينيها لأنها تشكُ بموعدهِ الغرامي هذا، لكنها مع ذلك تُكذِبُ واقعها فقط كي لا تجرح شعورهُ، حقاً إنها مَلَكٌ كريم.

جلس على مقعد السيارة دون أن يدير المحرك، لأن محرك عقله كان يعمل بصمتٍ رهيب، لقد دفعتهُ حماقاتهُ لهذا الموقف الغريب من حياته، زوجةٌ جميلةٌ مخلصة وبذور خيانة لا مبرر لها، و حالةُ تخبطٍ عاطفي وفكري تزمجر بعقله، وصورٌ تتراكم أمام عينيه لا يستطيعُ كبح جماحها، حيث تظهر له صورة (سلمى) وهي تنتظرهُ لتحل مكانها صورة زوجتهِ المخلصة و هي تعيد ترتيب ربطة عنقهُ، ولما اشتد عليه وقعُ الذكريات وتداخلت أصداء الحوارات وامتزجت ألوان الحقيقة والوهم، وحينما فقد السيطرة على مشاعره صرخ بأعلى قوته وهو لما يزل داخل سيارته، ثم ألقى برأسهِ على عجلة القيادة وأخذ يبكي بهدوء، وبعد أن بردت أعصابه واستراح الجسد بخروج الدموع، نظر للساعة وتذكر الشيء المهم بحياته، ليلتقط هاتفه ويجري اتصالاته ثم يدير محرك السيارة كي ينطلق نحو الموعد المنشود.

وصل متأخرا للمقهى البديع، ليقبل يدها بحنان، وجلسا معاً ولا صوت هنا أعلى من صوتِ هدير القلوب العاشقة التي تنبعث من رواد المقهى، لقد كان ينظر إلى عينيها بتأملٍ جديد، أما هي فقد كانت تنظر لمحياه وترى فصل الربيع يتشكل من احمرار آثار الدموع بعينيه والتي نزفها كثيراً، وبعد تبادل الصمت والتأمل و الإعجاب، نطقت باستحياءٍ وقالت: "دعنا لا نتكلم عن الماضي إنه لايهمني، ولكن حدثني عن الأيام القادمة فالكلام عنها الآن يعطينا مزيداً من الأمل" .. لقد صارحها (أديب) بحبهِ الكبير، إنهُ لا يخشى شيئاً الآن، ولم تعد تراودهُ أي أفكارٍ أخرى كتلك التي روادتهُ قبل اللقاء، وحينما حانت ساعة الإفتراق، تأمل عينيها كثيراً ويداهُ تستلهم الدفء من يديها لينحني على جبينها ويطبع قبلةً فيها كل آيات الحب و الجمال، بعد ذلك خرجا من المقهى وفي قلبيهما من العشق المتبادل ما يكفي لصنعِ زورقٍ من أوراق الورد يخترق عباب المحيطات الساحرة.

وحينما عاد للمنزل شكرتهُ زوجتهُ كثيراً على تلك الأمسية الجميلة التي أمضتها معه، لتعانقهُ من جديد وتهمسُ في أذنه وتقول "إني أحبك" .. ما أذكاها الأنثى حينما تستطيعُ استيعاب الرجل عبر حنانها ورقتها، وما أغباها حينما تجعلهُ يغادر أغصانها بحثاً عن غصنٍ دافئ آخر لا تتوفر فيه بالضرورة مسببات التغيير ، مجرد لمساتٍ حنونة وكلمات صادقة، جعلت (أديب) يلتقط هاتفه في السيارة ويرسل رسالتين، كانت الأولى (لسلمى) التي اعتذر لها عن القدوم، بل اعتذر لها عن أي لقاءٍ مستقبلي، أما الرسالة الثانية ارسلها لزوجته وقال فيها: حبيبتي الأبدية، كم أكون سعيداً لو رافقتني حسنائي لتكون الأنثى الأحق دون سواها بأن تكون جليستي هذا المساء.


التجربة الكورية؟



يصنف رجال الاقتصاد العالمي اليوم (كوريا الجنوبية) كدولة وصلت لما يسمى بالمعجزة الاقتصادية الأولى على مستوى العالم، بلد صناعي وزراعي وتقني بامتياز، هي نمر آسيوي ناهض لا يمكن اللحاق به أبداً أو حتى مجاراته.

حتى ستينيات القرن الماضي كانت المجاعة تعم أرجاء كوريا الجنوبية مما اضطر الكثير من الكوريين لأكل أوراق الشجر ومضغ الأعشاب بالطرقات، المجاعة الكورية كانت مهولة بينما كانت نظيرتها الشمالية تتمتع بنظام اشتراكي شيوعي جعلها ضمن توازن غذائي جيد .. لدرجة أن كوريا الشمالية قامت بإرسال الأرز لعدوتها الجنوبية بعدما اجتاحت الفيضانات كوريا الجنوبية وقضت على معظم حقول الأرز عام ١٩٧٤ وذلك خوفًا من تفشي المجاعة مرة أخرى بالبلاد بعد مجاعة الستينات.

كتب رئيس كوريا الجنوبية السابق (ميونغ باك) بمذكراته أنه حينما كان طالباً بالمرحلة الابتدائية بالستينات كاد أن يهلك من الجوع ويموت بسبب الفقر والمجاعة، لكن زميله بالمدرسة أنقذه من الموت إذ كان يساعده يوميًا لأن والد زميله كان غنيا وقتذاك، المضحك بالموضوع هو مقياس غنى وثراء أبو زميله بمقاييس الثراء حين ذاك، يقول (ميونغ باك) بأن والد زميله كان يملك بمنزلهم دجاجتين أي أنه من الطبقة الغنية وكان يأتي له ببيضة كل يوم للمدرسة وتكون هذه طعامه وقوت يومه وبفضل هذه البيضة لم تقضي عليه مجاعة الستينيات.

اليوم معدل دخل الفرد في كوريا الجنوبية عالي جدًا، والبطالة بأقل مستوياتها، كوريا الجنوبية اليوم عملاق صناعي جبار، سياراتها تغزو العالم بسبب رخص ثمنها وقوة أدائها، بالإلكترونيات لا يخلو بيت بالعالم لا يحتوي على شيء مصنوع في كوريا سواء أكان تلفاز أو هاتف محمول أو غساله أو مكواة أو ثلاجة.

ترى ما السبب الآخر -غير الإلهي طبعاً- الذي قفز بكوريا من بلد فاشل فقير معدم لبلد حقق المعجزة الاقتصادية الأولى بالعالم؟ علمًا بأن كوريا وحتى عام ١٩٨٧ كانت بلد خاضعه للانقلابات العسكرية والمظاهرات دائمًا ما كانت تعم شوارع (سيئول) ليل نهار، وفي كل يوم تقريبًا ثمة غازات مسيله للدموع تشتم رائحتها في أركان الشوارع لتفريق الجموع الغاضبة.

الجواب بكل بساطة هو الشعب، نعم الشعب الذي قرر أن ينتفض من قيود الفقر والحرمان والتبعية وينطلق للبناء بشتى المجالات، كذلك ثمة دور حكومي كبير تمثل بخلق البيئة المناسبة لهذه الانتفاضة.

بقناعة فظيعة جعلت الكثير من العمال والتقنيين والمهندسين يرضون بقبض اجور رمزية ومتدنية بالثمانينيات من أجل النهوض بكوريا مستقبلًا، وقامت شركة (هيونداي) بدخول السوق العالمية بأقل التكاليف والأسعار، وقدمت كوريا يد عاملة كفوئة ورخيصة للعالم الصناعي الأوربي كألمانيا وايطاليا وكانوا هؤلاء يحققون دخلا كبيرا لكوريا، أساتذة الجامعات رضو بمعاشات قليلة ذاك الوقت لأنهم كانوا يدركون بأن الجيل القادم سيعوضهم وهذا ما كان فعلًا، فالصندوق الاجتماعي لكوريا قوي جدًا ويدعم جيل الثمانينيات كثيرا كونهم جيل أوصل كوريا لما هي فيه الآن؟

أنا شخصيًا تعطيني تجربة كوريا قبس نور نحيل جدًا جدًا لأمل ما ينتظر سوريا، لمجرد الدعابة فما بين سوريا وكوريا تشابه لفظي كبير ولكن ثمة اختلاف بالوضع ملحوظ، لما لا نكون يومًا ما مثل كوريا بعد توقف آلة القتل اليومي في سوريا، لما لا؟
كوريا الجنوبية خرجت من حرب شرسة طاحنة عام ١٩٥٣ كانت فيها (سيئول) مدمرة بالكامل ومن قبلها بسنوات كانت ترزح تحت الاحتلال الياباني لأكثر من أربعين عام، كوريا بخمسينيات القرن الماضي كانت نسبة الأمية فيها تتجاوز ٩٠٪ لأن اليابانيون حاربوا التعليم بكوريا بشكل كبير.

لما لا تنهض سوريا من ركام الحرب يومًا ما ثم يعيد أبنائها بنيانها من جديد؟ نحن لا نريد سوى أن نحلم وهذا الشيء الوحيد الذي تبقى لنا وبالنسبة لي سأعيشه مهما كان لأنه من أبسط حقوقي. وأنا متمسك بهذا الحق وهو الحلم ولا أريد غيره.

من أنا

Rasha Khalifa
View my complete profile

Blogroll

 
© جميع الحقوق محفوظة |Study with us sPRk