ثرثرة فوق الدانوب

Monday, March 20, 2017

ألو ....
مرحبا.... تسمعوني جيداً ، معي بضع ثواني لا أكثر ، بس حابب أطمنكم وصلنا أمس بالليل لألمانيا لمدينة اسمها ( دريزيدن) والحمدلله وضعونا بكمبات اللاجئين وسجلنا أسمائنا ....
نعم ....لا أسمع علي صوتك شوي .....
أنا وثريا بخير والولدين كمان بس الخبر المزعج هو ( خالد) وعائلته انمسكو  بالمجر و إم خالد ما تحملت البرد وللأسف ماتت بالغابه أثناء مشيهم - بتعرف مرى ختيارة - وهاد السبب يلي أخرهن عن الجماعه لذلك مسكهن البوليس المجري  وهذا آخر علمي فيهم .... مضطر أنهي المكالمة .... إدعولنا كتير ....
.......
( ريما)  شابه اقتربت لتكمل عامها الرابع والثلاثين ، دعني استخدم كلمة ( كانت) كثيراً فقد بحثت عن كلمة رديفه ولم أجدها ....
- كانت متزوجة وكانت لها طفله بعمر سبع سنوات
- كانت تعمل موظفه حكوميه
- كانت جميلة
- كانت تملك منزل محترم ورثتهُ من والدها طبيب الجراحة الباطنية المشهور في مدينة حلب
- كانت إنسان ..... نعم كانت إنسان لكنها تحولت لكل شيء ما عدى الإنسان ، دعنا نقول بأنها مجرد كائن حي مكلوم وفاقد لكل أحاسيسه الإنسانيه ....
ها هي ريما تلتقط هاتفها وتكتب عبر تطبيق (الواتس أب) الرساله التاليه :
نوال مسا الخير ، اليوم بكمل اسبوع لي بالكامب ، حطونا بمدينة اسمها ( توملينغن) الكامب عبارة عن صاله رياضيه خصصت للاجئين ، وقسموها لغرف ، نحن بالغرفه ثلاث لاجئآت وحدة أفغانيه و التانيه بوسنية ، لا بكلمهن ولا بتعاطى معهن أبدا ، المهم حابه أخبرك  شي مهم قبل ما تطورطي متلي ، المهرب ( فرهاد) طلع واحد حقير وكذاب وسرق كل فلوسنا وتركنا بهنغاريا وحيدين وحاول يتحرش بالبنات كلهن ، لولا ستر ربك ما كنا وصلنا ألمانيا بس ولادين الحلال ما خلصو من الدنيا ، المهم ديري بالك على حالك لما تقررو تطلعو من ( أزمير) لا تثقوا بأي مهرب ، سلام ...

انتهت نص رسالتها الموجهه لصديقتها (نوال) والتي تنتظر مع عائلتها بمدينه أزمير موعد الخروج نحو الجنة ، فجدنا آدم أكل التفاحة وعلى أثرها طُردنا من الجنة ولكن شجر التفاح كثير بأزمير وربما يحدث العكس وتأكل نوال وآلاف أمثالها قضمات من التفاح فتعود للجنه من ناحية الغرب وتصل إلى ألمانيا أو أحد الدول الإسكندنافيه ....
 هل أفسر الآن كلمة ( كانت) فأقول بأن ريما كانت متزوجه وأم لأنها ببساطة فقدت زوجها وطفلتها حينما سقطت قذيفه على منزلها الموروث من أبيها و تدمر المنزل  وقتل على إثر ذاك بالحال زوجها وطفلتها ونجت هي بإعجوبه وتخلفت تحت الأنقاض بضع زمن حيث فقدت عينها اليسرى وإحترق جزء من وجهها وفقدت ثلاث أصابع من قدمها ولم يعد لمسحوق التجميل أي دور بإعادة الرونق الجميل لمحياها ، كذلك ما الفائدة من تلوين أظافر رجليها بعدما فقدت جزءً من أصابعها....
تشردت عائلتها تماماً عبر الطريق المؤدي للجنة بدئاً بتركيا ثم اليونان فمقدونيا وصربيا وسلوفاكيا والتشيك ، وباتوا  مرميين عبر هذه الرقعه الكبيرة بعضهم مات برداً وجوعا وقهرا ..... فقدت التواصل مع معظم عائلتها ومات الإنسان بداخلها فهل تنجح ألمانيا ببعث الروح من جديد بفؤادها ، وإن عادت الروح بداخلها فهل تعيد لها صورة ابنتها التي ذهبت ريما لعمل الطعام لها قبل أن تسقط القذيفه ، فرحلت ابنتها لكن كلمة ( ماما جوعانه ) لا تزال تحفر كالمثقب بجمجمتها وتصيبها الهستيريا وتقول بداخلها ليتني لم أذهب للمطبخ كي أحضر لها الطعام ومتُ معها  ، حتما كنت سأحضر لها الطعام هناك بالعالم الآخر ونأكلهُ معاً....
........
أثناء تسجيل الأسماء  بمركز ( ميونخ ) للاجئين وقفت الموظفه الألمانيه مدام ( إيفا) حائرة ، فطلبت من المترجم العربي أن ينادي على الشاب الواقف هناك والذي يرتدي معطف أزرق ....
عفواً فراو ( إيفا)  تسأل بأنك قلت لنا أن اسمك ( ديفد) وتقرير الشرطه الألمانيه بعد التحري عنك يقول ان اسمك ( داوود ) هل من الممكن أن تفسر لنا هذا الخطأ من فضلك ...
- المعذرة لا يوجد أي خطأ ، أنا اسمي ديفد
- ولكن هذا مغاير لتقرير الشرطة الألمانيه فالمجموعه التي وصلت معك تقول ان اسمك ( داوود)
- كان اسمي داوود وبإعتباري لا أملك وثائق لأني فقدتا كلها فأنا قررت أن يكون اسمي ( ديفد) وأتمنى أن يسجل كما قلتهُ لكم ... اكتبوها ( ديفد ) وحسب ...
- فراو إيفا للآن لم تقتنع وهي ترفض رفع اسمك بالكشوفات حتى يفسر لها الموقف ... للمرة الثالثه نطلب منك التوضيح لو سمحت ...
- سيدي بكل بساطه أنا منذ وطئت قدمي أرض ألمانيا الإتحاديه قررت أن أترك من خلفي كل شيء لأني فقدت كل شيء .... أنا من اللحظه إنسان جديد ولدت للتو ولي كامل الحريه باختيار اسمي وعرقي وديني .... قل لها بالألمانيه أني قررت التخلص من اسمي وهذا من حقي ولو رأيتم أن ذلك لا يوافقكم فبإمكانكم رفض طلب لجوئي وإعادتي مجدداً إلى حدود النمسا والقرار قراركم ...
   بعد تحدث المترجم مع الموظفه لبضع دقائق رد المترجم عليه وقال : حسناً فراو ( إيفا)  تقول بأنها ستناقش الأمر مع مرئوسيها وسنخبرك بالقرار لاحقاً ......
وبعدما انصرفت الموظفه نحو عائلة ألبانيه لاجئة  بذات المخيم مسك المترجم يد ( ديفد) وشدها بعنف وقال له بغضب وبلهجة سورية : وقف لا تروح بدي أحكي معك شوي عشنا وشفنا أمثالك ....
- إنت محسب شطارة وذكاء منك تغير ماضيك ، إنت مفتكر الألمان رح يتعاطفو معك لمجرد تغييرك لملتك يا منافق .
- عفوا سيدي المترجم أنا قلتها لكم إن رُفِض طلبي أعيدوني للنمسا وأنا مُصر على رأيي فأنا ( ديفد) الجديد .
- إخرس يا منافق انت مفتكر ان هذا الشي سيعجل من قبول طلب لجوئك ، يا ريتك غرقت بالبحر ولا شفنا أمثالك ....
 نظر ديفد للمترجم ببرود ثم إلتقط سيجارة من جيب معطفه الأزرق وأشعلها ثم أجابه ....
- أنت إنسان مستقر  تلبس ربطة عنق جميله وتملك وظيفه محترمة وأكيد سينتهي دوامك بعد قليل لتذهب لبيتك وتشوف مرتك جهزتلك العشاء اللذيذ ،  وبعدها بتلعب مع أولادك شوي  وبتأمن عليهم صارو على أسرتهم وبتبوسهن من جبينهن وهنن نايمين وبتقول يا الله ما أجملهم ، وبتسهر شوي مع المدام وبعدها بتنام بفراش دافئ وغرفه نوم جميله ومزركشه ....الذي أمامك كان مثلك تماماً قبل سنتين ولما اندلعت الحرب ببلدي لسبب تافه جدا فقدت عملي وفقدت أموالي وقررت أطلع مع زوجتي وأولادي لتركيا ، وهذا ما حدث لأكتشف بأني استجرت من الرمضاء بالنار ... تعذبنا اكتر ..و جعنا أكتر .. وانذلينا أكتر ولما قررنا نهج لأوربا وقعنا بمافيا التهريب القذرة وتخبينا بجبال ازمير مع عائلاتنا ومع شيوخنا وأطفالنا ونسائنا ، والمهربين مصو دمنا ولو استطاعو لحتى سحبو نظر عينينا ، وبليله باردة جدا طلعونا اكتر من خمسين شخص بمركب مطاطي متهالك وما كان أمامنا غير نركب      (البالم) ومعي زوجتي و أولادي وطبعا قبل أن نوصل سواحل اليونان تم إطلاق النار علينا من جهه مجهوله وغرق المركب ....أولادي من شدة البرد ماتو بالبحر ولما وصل خفر السواحل اليوناني كان نصف الركاب ماتو... أنقذوني أنا ومرتي  وكانت فاقدة الوعي ولما صحيت من غيبوبتها بالمستشفى بعد أيام وعرفت بموت ولادنا انتحرت بنفس اليوم .... وتميت أنا لحالي ... عفوا سيدي المترجم هل سبق أن مات ولدين بين إيديك وأنت عبتسبح بالظلام الدامس  والبرد القارص وقبل ما يموتوا همس ولد منهم بإذنك وقلك بابا أنا بحبك كتير بس بردان كتير كتير ، بابا ليش ما تمينا في بيتنا بحلب ليش ......
سيدي المترجم لربما إن غيرت عرقي وديني أكون تخلصت من تاريخ قديم لم يبقى منه إلى قصص شجاعه عنترة وكرم حاتم وحكمة إياس وفصاحة قس بن ساعدة .... لربما أكون تخلصت من  وامعتصماه  ومن صلاح الدين ومن هارون الرشيد .... لربما أتخلص من شعر المديح والهجاء ومن اكرام الضيف وإغاثه الملهوف ..... سيدي المترجم هل فهمتني أم أشرح لك أكثر ....
 بعد ذلك قذف الشاب بعقب سيجارته للأرض ثم سحقها بقدمه وانصرف عنهُ تاركاً المترجم فاغراً فاهُ والدمعُ يتراقص داخل حدقيه لهولِ ما سمع .....
.......
..........
بأحد المقاهي الجميله بمدينة ( ريغنسبورغ)  حيث المنظر الجميل المطل على ( نهر الدانوب) من شرفة المقهى ، كان هنالك ثمة موعد يجمع السيد (زياد) مع صديق قديم له يعمل طبيب جراح في ذات المدينة منذ زمن طويل ، هذا اللقاء عقد بناءً على طلب السيد (زياد) ، رغم برودة طقس (ريغنسبورغ) إلا أن اللقاء كان دافئاً جداً بعد غياب طويل ، حيث انتهت كلمات المجامله  وبدأ الحوار ينحو نحو المصلحة  وتبادل ذكريات الماضي التي كانت تجمع الصديقين بحلب منذ زمن طويل ، وبما أن الحوار كان فوق الدانوب فلربما يكون ثرثرة هو خير وصف يطلق عليه ، حيث طلب السيد ( زياد) من صديقه مساعدتهُ بإيجاد بيت فخم كي يبتاعهُ ويستقر فيهِ مع عائلته ، كما استفسر منهُ  عن أسماء المدارس الراقيه بالمدينة كي يلحق أبنائهُ بها .... وكما أسلفت بأنها ثرثرة فلما لا نسترق السمع قليلاً لها ونقيمها...
- غريبه يا ( زياد) إن آخر شخص كنت أتوقع منهُ القدوم لألمانيا هو أنت... فعلى حسب معلوماتي أنت تعمل بأحد الدول العربيه منذ زمن و وضعك مستقر ودخلك كبير جدا وتمتلك عدة شركات ....
- نعم ... نعم والحمدلله لايزال كذلك وأنا لم أترك بعد أعمالي وشركاتي  ، جئت مع عائلتي فقط كي أئمنهم بألمانيا بعدها سأعود لعملي فوراً ....
- غريبه ... ولما كل هذا العناء كما قلت لي بأنكم جئتم عبر التهريب كان بإمكانك دخول ألمانيا بطرق أخرى كالسياحة مثلا وأنت كما أعلم تزور أوربا سنويا للسياحة مع عائلتك.

- صحيح جئتُ تهريب ولكن عبر يخت ملكي مريح جدا استئجرته لعائلتي فقط ، حيث أقلنا من إزمير وصولاً لليونان و هنالك كانت سيارة ليموزين فخمة جدا تنتظرنا لتقلنا إلى الحدود الألمانيه النمساويه وهناك ترجلنا السيارة وغيرنا ملابسنا وقد أخفيت مع صديق لي جوازات سفرنا وأموالنا ودخلنا ألمانيا وسلمنا أنفسنا على أننا لاجئين ، طبعاً من المحال أن أنام مع الرعاع بمخيمات اللجوء أو حتى آكل طعامهم، حيث أقمت بفندق فخم لعدة أسابيع ريثما يتسنى لي ترتيب أموري مع محامي اللجوء  .

- قصتك غريبه يا زياد .... ولما كل هذا العناء وأنت بالأصل لست من سكان سوريا رغم جنسيتك السوريه ، بل تعيش بمكان آمن ومريح وأنت من أصحاب الدخل الكبير ...
- الجنسيه الألمانيه يا صديقي .... شيء لن تفهمه كونك ألماني منذ زمن طويل ... وجائت الفرصه لي ولعائلتي كي أدخل بين اللاجئين لما لا أفعل ذلك ... فرصه واستغليتها لصالح عائلتي ...
- لكن هذا ينافي عرف اللجوء يا زياد فأنت لم تأتي من مناطق حرب وقتل وتقطيع رؤوس وأوصال ، أنت أتيت من مناطق آمنه جدا واستغليت جنسيتك وأخذت مكان غيرك الأكثر حاجة منك ، واستخدمت أموالك الكثيرة للوصول لغاية غير مشروعه بالأصل  لك.
- صديقي ألا تعلم بأن الغاية تبرر الوسيله ومثلي المئآت بل الآلاف فعلوا ذلك، أنا ومن بعدي الطوفان ....
- تعرف يا زياد ... مجرد اختلاف ثقافات ومنشأ التربيه ، هل تعلم بأنني قررت أن أرجع لحلب في هذه الظروف العصيبه التي يمر بها الوطن ، فأظن بأن مئآت المحتاجين هناك ينتظرون وجود أطباء كي يداووا أناتهم ويضمدوا جراحهم في ظل نقص الكادر الطبي للمدينة التي أعطتنا كثيراً ولم نعطيها شيء ....
- أحقاً أنت ذاهب لحلب .... إذا كان الأمر كذلك هل أستطع شراء منزلك هنا (بريغنسبورغ) فأنا أراه مناسباً جدا لي ولعائلتي ... ما رأيك يا صديقي ...

لحسن الحظ بأن الثرثرة هذه كانت على رصيف ثابت بمقهى ولم تكن على متن عوامه فوق الدانوب ، وإلا لكان حارس العوامة قد حل وثاقها لتنطلق فوق صفحات الدانوب كما انطلقت عوامة النيل سابقا .... لكن عوامة الدانوب هذه لا تزال ثابتة و تحمل  على متنها آلاف القصص الأليمة عن واقع السوري اللاجئ والذي لن تنتهي قصصه حتى انقباض الأرض بيد خالقها.

0 التعليقات:

Post a Comment

من أنا

Rasha Khalifa
View my complete profile

Blogroll

 
© جميع الحقوق محفوظة |Study with us sPRk