ذاكرة السمك ( النهوض الأول)

Wednesday, March 8, 2017


مجرد سرد لا أعرف أينتمي للحلم أم للواقع ، خيط رفيع جدا لونهُ أبيض لكنهُ موجود .... كما أسلفت هو سرد رغم غموضه لكن نتيجتهُ واقعيه لا يمكن انكارها أو تجاوزها....
   
نهض ( رمزي) من السرير كالمفزوع ، هي مجرد قيلولة أراد منها أن يريح جسده المتعب الضامي .... بسرعه كبيرة لبس أفخم بنطالٍ عنده ، بالكاد عُمر هذا البنطال زهاء ست سنوات ، كانت والدتهُ قد صغرت مقاس  خصر هذا البنطال للمرة الثانيه منذ شهرين بسبب ضعفهِ وانهيار وزنه المستمر .....  ثم لبس قميص أبيض اصفرت ياقتهُ وأكمامه لفرط قدم عمره ، ثم تسلق الخزانة حيث يخبئ ساعة يد سويسرية ثمينة نوعاً ما ،  كان زملائهُ بالعمل قد أهدوه إياها بمناسبة زفافه قبل سنوات بعدما جمعوا ثمنها فيما بينهم ، هي ليست ثمينة ولكن هي أفخم وأغلى شيء يملكهُ حالياً ....
لا يملك زجاجة عطر ، لكنهُ يمتلك زجاجة كولونيا بعد الحلاقة ، تعطر منها ورش منها  ثيابه ، كان قبل قيلولته قد طلب من زوجته تلميع حذائه بالورنيش ، رغم قدم الحذاء لكن الورنيش أطفى على الحذاء نوعاً من الألق ....
صرخ وقال لنفسه ... يا الله نسيت أن أتوضأ ، نزع الساعة المدلـلة وخلع قميصهُ ثم دخل ليتوضأ بسرعه .
كان يحتاج أن يركب باصين للنقل العام ليصل لمبتغاه وأذان المغرب قد أزف لذلك قرر أن يركب سيارة أجرة رغم أن ذلك سيلتهم مالاً كبيراً منه لكن لا ضير من ذلك كون الموعد مهم جداً .....
وصل قبيل الأذان بدقائق ، كان المسجد قد امتلأ تماماً هو لا يريد مكاناً بقدر ما كان يريد رؤية (عبد الشافي) ... بعد طول تمحيص بوجوه الموجودين شاهد (عبدالشافي) وهو يلوح له  ، وثب عليهِ كما يثب الذئب على الأرنب ... قدم له اعتذاراته عن التأخير وتحجج بأنه أراد أخذ قيلولة بسيطة لكنها امتدت لزمن أطول ...
عبد الشافي قال له ممسكا يده : حسناً حسناً ما من مشكله ، حظك الجيد أن فضيلة الشيخ لم يصل بعد ... هيا تعال معي بسرعه.

عبد الشافي هذا مريد من مريدي الشيخ الذي سيصل بعد قليل  كي يصلي إماماً بالناس ثم يلقي درسهُ الأسبوعي حتى صلاة العشاء ثم ينصرف ، فضيلة الشيخ هذا من أشهر الواعظين لا تكاد قناة تلفزيونية بالبلاد لم تستضيفهُ ببرامجها ، استطاع أن ينشئ مع الزمن  قاعدة شعبية كبيرة بين مجتمع العامة من الناس ، ولهُ درس وعظ اسبوعي في هذا المسجد يحضرهُ كبار التجار والمثقفين وكذلك البسطاء ...
صديقنا رمزي يحلم منذ فترة طويله بمقابلة الشيخ فهو كما عوام الناس ينجذب لكلامه واسلوبه وطريقة شرحه لغوامض الأمور ....
كانت الصفوف الأمامية بالمسجد مخصصه لكبار التجار الذين يهرعون لحضور دروس الشيخ وهم أول ما يبكون حينما يذكرهم بيوم القيامة كذلك هم أول من يضحكون حينما يروي فضيلته بعض الطرائف الخفيفه أثناء الدرس.
عبدالشافي كان قد وعد صديقهُ رمزي بأن يحجز لهُ مكاناً متقدما بالمسجد ليتسنى لهُ القفز على الشيخ وتقبيل يده ثم سؤاله سؤال مهم جداً ..
بالفعل أدخل عبدالشافي صديقهُ رمزي للمسجد من باب الإمام القريب للمحراب ليقعدهُ بحذائه بعد أن طيبهُ بعطر الورد الطائفي ، بعد ثوانٍ وصل الشيخ بسيارته الفخمة ، حيت تولى أحد المريدين بركة ركنها ليدخل الشيخُ المسجد حيث قام الجميع للسلام عليه بمن فيهم رمزي ، لكنه خشي أن يدافعهُ أصحاب الصف الأول ويقذفوه للخلف لذلك تشبث بالمحراب بكلتا يديه ولم يتحرك ....
صلى الجميع المغرب ، ثم بدأ الدرس وانتهى قبيل أذان العشاء ، ثم صلى الجميع العشاء ، وتقاطر بعدها المصلون والمريدون لمصافحة الشيخ وتقبيل يده ، بعد ذلك تحلق بعض كبار التجار حول فضيلته وهم يكيلون عليه أرقى كلمات الإعجاب والثناء ، وحينما هم بالخروج من باب الإمام كما دخل ، اندفع رمزي نحو الشيخ وصافحهُ بحرارة حيث كان يتربص خروجه عند الباب ، وقال له : أرجوك فضيلة الشيخ امنحني فقط دقيقة من وقتك عندي سؤال حياة أو موت ....
قال الشيخ بملل وهو ينظر لساعته بعد أن لاحظ اللون الأصفر على ياقة وأكمام قميص رمزي ... تفضل تفضل يا أخي هاتِ ما عندك ....
قال رمزي ، أنا شخص أعمل كاتب بأحد المصالح الحكومية وأعمل بعمل إضافي  بعد دوامي والحمدلله استطيع بذلك أن أعيش أنا وزوجتي وأمي و طفليا ، ابتلى الله ابني الثاني بالمرض الخبيث ، وتكلفة علاجه فاقت امكانياتي ، جلسات العلاج بالكيماوي في مشافي الدولة تحتاج زمن طويل كون مواعيدهم  بعيدة جدا ، لذلك انا مضطر لعلاجه بمشفى خاص وهذا مكلفٌ جدا علي ، لا أملك شيء سوى ثيابي وساعتي هذه و وظيفتي ، طلبت سلفه من عملي لعلاج ابني فتم رفضها بحجة أن أعالجه بمستشفيات الدولة ، عُرض علي بيع إحدى كليتي ليتسنى لي علاج إبني ، فما حكم الشرع بذلك ....
رمقهُ الشيخُ وقال له : كلا يا بني هذا حرام لا يجوز ذلك شرعاً جسمك ليس ملكك لتبيع شيئاً منه ...
ثم هم الشيخ بالخروج فلحقهُ رمزي فغضب الشيخ وقال لهُ بنبرة غضب : يا إبني أنا مشغول عندي برنامج بعد ساعه سألتني وأخبرتك بالحكم ....
قال له رمزي : شيخي قل لي ما أنا فاعلٌ حيال ذلك إبني يموت آناء عيني كل يوم ....
رد الشيخ : إذهب للمشفى الحكومي .
اسودت الدنيا بعيون رمزي تماماً ، وأحس بثقل وهم كبير ينزل على كتفيه ، مع ذلك لحق الشيخ مرة ثالثه وكان الشيخ يهم بركوب سيارته ، لكن معشر الساسه والتجار المتجمهرين حول فضيلته حجبوا عنه بلوغ مبتغاه ، سمع الشيخ وهو يقول لأحد كبار التجار مبتسماً غير ناظرٍ لساعته هذه المرة : بكل تأكيد سأزورك بمزرعتك يوم الثلاثاء القادم وسنتناول العشاء معاً فلا يوجد عندي تصوير ذلك الوقت ....
عاد لمنزلهِ متثاقلاً كئيباً هائماً حزينا، لا شيء بعقله سوى احباط من شيخٍ لطالما أحبه وأحب محاضراتهِ عبر وسائل الإعلام ولطالما تعلق بكلامه منذ زمن بعيد ، وحينما إلتقاه خاب ظنهُ .... ما المانع لو طلب الشيخ من التجار التكفل بعلاج إبني ، حتما سيلبون ذلك ، لكن هيهات هيهات .
في اليوم التالي بعدما انتهى رمزي من دوامه عرج على مكتب التاجر الذي عرض عليه شراء كليته واتفق معهُ على كل شيء وحددوا يوم العملية وأعطاه المشتري دفعه على الحساب ، مباشرةً دفعها للمستشفى الذي سيعطي جرعات الكيماوي لإبنهِ بمساء نفس اليوم ....
ما فعلهُ رمزي بسيط جداً ، باع كليته و ضرب كلام الشيخ عرض الحائط ، مساءً  جمع رمزي بعض كتب الشيخ الموجودة عنده ثم صعد سطح منزلهِ وأحرقها جميعاً .
وفي مساء الثلاثاء كان فضيلة الشيخ على مائدة التاجر آنف الذكر ، كان عشاءً لذيذاً ، بعد ذلك احتسوا الشاي على أطراف المسبح ، وسأل التاجر الشيخ قائلاً: لي صديق من كبار التجار يعاني من فشل كلوي حاد وقال له الأطباء أنهُ بحاجة لكليه جديدة ، أحب صديقي هذا أن يتلقاها من مشتري فقير وليس متبرع من أسرته لأن نيتهُ مساعدة الفقراء وتفريج همهم ، وبالفعل لقد حظي بشخص محتاج للمال وسيدفع له بسخاء مبلغ كبير يفوق ثمن الكليه مرتين ، فما حكم ذلك يا فضيلة الشيخ ....
رد الشيخ قائلاً :  بارك الله فيه ، قطعاً هو اختار الطريق الأمثل حيث فرج عن فقير كربته و عالج نفسه  .

إذا هي ذاكرة السمك التي يتمتع بها فضيلتهُ ، لو عاد بالتفكير قليلا لثلاثة أيام خلت لتذكر تماماً منظر رمزي البائس وهو يقف أمامه بكل انكسار وذل ، لكن كما قلت هي ذاكرة السمك أو لربما ذاكرة أنشتاين لا يهم الآن هذا الكلام ، رمزي باع كليته وحسب           و مائدة العشاء كانت لذيذه ذاك المساء  وفضيلة الشيخ يُحضر موضوع الدرس القادم ولما تزل عجلة الحياة تدور .





                                     سعد وليد بريدي

0 التعليقات:

Post a Comment

من أنا

Rasha Khalifa
View my complete profile

Blogroll

 
© جميع الحقوق محفوظة |Study with us sPRk